ادعمنا

الديمقراطية التداولية عند يورغن هابرماس - Deliberative democracy of Jürgen Habermas

تعد الديمقراطية من أهم المواضيع التي عنيت بها الفلسفة، فهي مثار نقاش بين الفلاسفة ورجال الفكر والسياسة، إذ تعود الجذور التاريخية لفكرة الديمقراطية إلى الفلاسفة اليونان، لكن تبلورها لم يتأتى إلا مع فلاسفة العقد الإجتماعي والتي تقوم على فلسفة الذات المؤسسة على فكرة العقد الاجتماعي الذي ينتقل الأفراد بموجبه للحالة المدنية، لكن هذا الطرح لقي تفنيدا في الفلسفة السياسية المعاصرة، وهو ما حاول يورغن هابرماس التأسيس له من خلال نظريته حول الديموقراطية التداولية أو التشاورية، وربط الفعل السياسي بمجال بينذاتي Intersubjectif عكس الطرح الأول الذي يقوم على المجال الذاتي الفردي.

 

1- يورغن هابرماس: حياته وإنتاجه العلمي

ولد يورغن هابرماس سنة 1929 بمدينة دوسلدروف بألمانيا، زاول دراساته العليا في جامعات جوتنجين (1949- 1950) وزيورخ Zürich (1950- 1951)، و بون Bonn (1951- 1954) ونال درجة الدكتوراه في الفلسفة من بون سنة 1954 مع أطروحته المعنونة بـ "المطلق والتاريخ؛ حول التناقض في فكر شلينغ".

قضى يورغن هابرماس حوالي خمسين سنة في الكتابة مما أدى ذلك الى إنتاج العديد من المؤلفات والكتب ولعل من أبرزها مايلي:

- الكتاب الشهير بعنوان " نظرية الفعل التواصلي" 1981، والذي طرح فيه أرقى نظرية عقلانية وديموقراطية للمجتمعات الحديثة بالإستناد إلى التواصل.

- الكتاب المعنون بـ "الفضاء العمومي" 1978 و الذي تحدث فيه عن فكرة الفضاء العمومي و اعتبرها مهمة جدا .

- كتاب " الديمقراطية التشاورية " والذي أراد منه أن يكون بديلا للديمقراطية الليبرالية التي دافع عنها جون راولز رولز في كتاب نظرية العدالة. 

 

2- السياق العام لظهور الديموقراطية التداولية 

لقد ظهرت الديموقراطية التداولية مع يورغن هاربرماس في مطلع تسعينيات القرن الماضي، في خضم سلسلة التحولات السياسية والاقتصادية والتاريخية التي عرفها العالم كانهيار المعسكر الشرقي وتطور المجتمع الرأسمالي وتراجع الأيديولوجيات العسكرية... كل هاته العوامل ساهمت في تراجع الأنساق الفلسفية الكبرى والإنتقال من الفكر الميتافيزيقي إلى الفكر البديل عن الميتفافيزيقا. 

وبالتالي فقد ارتبط ظهور الديموقراطية التداولية -أو الديموقراطية التشاورية كما يصطلح عليها البعض- عند يورغن هابرماس بنقده لنموذج فلسفة الوعي المتمركزة حول الذات، أي نقد مجمل النظريات التي تجعل أساس الفعل السياسي أو الاجتماعي مرتبطاً بالذات ووعي الفرد والمأخوذ بشكل معزول ،  - و هو ماتجسد في نظرية راولز خاصة – ومحاولته ربط هذا الفعل بالوعي المشترك ليصبح مجال الفعل السياسي هو مجال بينذاتي  Intersubjectif، كما سيجعل منه فعلا أخلاقيا، ولذلك سوف يقرن مسألة الديمقراطية بالأخلاق التواصلية، منتقلا بذلك من العقلانية الأداتية إلى العقلانية التواصلية، فالفعل التواصلي هو الذي يحدّد لديه العلاقات الاجتماعية داخل فضاءات عمومية قائمة على المناقشة، أي أنه فعل يهدف إلى تحقيق التفاهم بين الأشخاص المتحاورين، عكس الفعل الأداتي الغائي، فهو فعل يهدف إلى تحقيق غاية أو مصلحة محددة ويتجه نحو التأثير على الطرف المقابل، وهذا ما يكشف عن جانب الإكراه أو الإغراء الذي يمارسه هذا الفعل على الطرف الآخر، في حين يقوم الفعل التواصلي على التفاهم والاتفاق المؤسّس بشكل عقلاني داخل فضاء عمومي. 

فهابرماس يتخذ موقفاً نقدياً إزاء الأنموذج الليبرالي الذي تقوم نظرته على سلطة الدولة المنبثقة من الشعب، وتجعل من الدولة مجرد أداة لخدمة الشعب أو المصلحة العامة، وتحصرها في جهاز ضيق هو الإدارة العمومية التي تكون في مقابل المجتمع كنسق من العلاقات بين الأفراد. كما ينتقد هابرماس الأنموذج الجمهوري لكونه ينطلق من جعل الممارسة السياسية مجرد ممارسة تهدف لتخليق العلاقات بين المواطنين داخل الدولة، باعتبارهم مواطنين أحرارا متساوين فيما بينهم، ويقترح في المقابل مبدأ المناقشة كأساس للديموقراطية، من هنا تأتي نظريته في الديمقراطية التشاورية أو التداولية كبديل للنظريتين الليبرالية التي تنظر إلى العملية السياسية كمسار تفاوض بين المصالح الشخصية، والجمهورية التي تطالب - ضدّ هذا الاختزال الذرّي للسياسة- برؤية جماعاتية للعملية السياسية .

 

3- المفاهيم المركزية للديموقراطية التداولية ومبادئها العامة 

يشير مصطلح الديموقراطية التداولية أو التشاركية أو التشاورية إلى إحياء تقاليد المناقشة والتفكير التأملي بين أعداد كبيرة من المواطنين حول القضايا العامة، حتى يتم التعرف على رأيهم فيها وعرض ما يتم التوصل إليه من آراء على المشرعين وصناع القرار.  

وقد اعتمد هابرماس في صياغته وشرحه للديموقراطية التداولية على ثلاث مفاهيم مركزية كالآتي: 

- العقلانية: حيث أن الديموقراطية القائمة على الحوار والتواصل تكون عقلانية من خلال دور العقل فيها الذي يقوم بتبادل الحجج بطريقة تجعل كلّ متحدّث قابلة للتغيّر بالنظر إلى نوعية الحجج المقدّمة من طرف المشاركين الآخرين.

- السلطة: توجد بداخل الإدارة، وتعبّر عن طبيعتها لارتباطها بالتكوين الديمقراطي للرأي، وعملها لا يتوقف عن المراقبة.

- الرأي العام: بفضل الإجراءات العموميّة يتحوّل الرأي العام إلى سلطة تواصلية قادرة على توجيه استعمال السلطة العمومية، فهي تعني مشاركة في التوجيه، وليس هيمنة. 

أما عن المبادئ العامة التي تقوم عليها الديموقراطية التداولية وفقا لمنظور هابرماس فتتمثل فيما يلي: 

- سيادة الشعب: التي تستلزم أن تكون كل سلطة سياسية منبثقة عن السلطة التواصلية للمواطنين توفر شروطا خاصة للحوار والنقاش.

- يتعهد البرلمان بتشريع القوانين وإنجازها ويتطلب ذلك تحريك الحكومة وتوجيهها. 

- مبدأ حكم القانون والفصل بين السلطات: حيث لابد على الحكومة الإذعان للقوانين و تنفيذها. وقد حاول هابرماس إلصاق السلطة الحكومية (الإدارية) بالمواطنين بوصفهم سلطة تواصلية لها حق التمثيل عن طريق ممثليهم في البرلمان .

- بناء مجتمع مدني حر: حيث يسعى هابرماس لبناء مجتمع مدني حر تتوحد فيه الحرية والتعددية ويرتبط بمستقبل سياسي حر، ويشكل ميدانا شعبيا غير رسمي يسيطر على مؤسسات الدولة. 

 

4- المنطلقات النظرية للديموقراطية التداولية عند هابرماس 

لقد انطلق يورغن هابرماس في بناء نظريته حول الديموقراطية من سؤال جوهري هو: كيف يمكن للمواطنين في الدولة الديموقراطية أن يتعايشو في شروط عادلة؟ 

وقد جاءت نظرية هابرماس في الديموقراطية التداولية كطريق ثالث لمعقولية العملية السياسية مما يقتضي ذلك تفادي أخطاء المذهبين اللبيرالي والجمهوري . وتقوم على مجموعة من المنطلقات الفكرية كالآتي: 

- نظرية الفعل التواصلي العقلاني: فالفعل التواصلي يحدد نوع من التفاعلات التي تنظم عبر اللغة، هذه التفاعلات هي تواصل ما بين المواطنين وبلورة القوانين التي تتحكم فيها، ولكن يجب أن يعكس هذا التواصل علاقة حرة موازية بين مختلف فئات المجتمع، تهدف إلى بناء وعي حر يؤدي إلى تقوية العلاقة ما بين الفرد المواطن والمجتمع. فمبدأ المناقشة السياسية كمبدأ ديمقراطي هو أساس الديموقراطية التداولية.  

- نظرية التواصل الأخلاقي: حيث اهتم هابرماس بسؤال الأخلاق ليس في بعده الميتافيزيقي، بل في بعده التواصلي و اصطلح عليها ما يسمى "أخلاقيات النقاش"، فالمعايير الأخلاقية هي تلك التي يقبلها أعضاء الجماعة التواصلية المعنيون بها بحيث تراعي مصالحهم المشتركة. وقد أشار هابرماس إلى بعض القواعد مثل: لكل من هو قادر على الكلام و الفعل نصيب من النقاش، ولكلّ الحق في إثارة أي إشكال أو اعتراض على أي تأكيد كيفما كان، كما لا يحق منع أي كان من النقاش.

- فكرة المجال العام أو الفضاء العام: في رأي هابرماس فإن المجال العام هو ذلك الميدان الذي يفسح المجال للمواطنين بأن يعبروا عن آراءهم بكل حرية وبدون تقييد، وهذا مايؤدي إلى إقامة "تواصل عقلاني". وهو مجال يختلف عن مجال البرلمان الذي هو جزء مهم من مؤسسات الدولة ويدين بالولاء للسلطة السياسية، فهو مختلف لأنه مجال نقي للمواطنين ويدين بالولاء للشعب.

من هذه المنطلقات النظرية، أسس هابرماس لنظريته حول الديموقراطية التداولية حيث يشكل الحوار والنقاش في هاته الديموقراطية مصدرا لمشروعية القانون، فلا يمكن للمعيار القانوني أن يستمر كقانون شرعي إلا في حالة خروج المواطنين من وضعهم كمواضيع للقانون، ليأخذوا وضع المشاركين في الاتفاق حول صياغة قواعد الحياة المشتركة. 

فقوة نظرية الديموقراطية التداولية عند هابرماس تكمن في جانبها العملي بحيث لا تقدم حلولا جاهزة يمكن تطبيقها على أرض الواقع، بل تقدم إجراءات هي بمثابة شروط يمكن الإنطلاق منها لإيجاد الحلول الممكنة، فالجانب الإجرائي الذي تتأسس عليه هاته الديموقراطية تجعلها نموذجا دون مضامين مسبقة. فوحدها المشاركة في المناقشة المفتوحة في الفضاء العمومي تحدد طبيعة المضامين المطلوب تبنيها لإيجاد حلول ملائمة لقضايا موضوع التشاور.

والمهم بالنسبة إلى هابرماس هو أن تمنح هذه الديموقراطية إمكانية بناء مجتمعات حداثية مؤسسة على مشاركة الفاعلين المعنيين دون إقصاء، لأن هذا النموذج لا يتوقف عند حدود الفضاء العمومي القوي (البرلمان)، بل تُجاوزه إلى الفضاء العمومي الضعيف الذي يتشكل من شبكات المجتمع المدني ، فهي نموذج بديل للديموقراطية التمثيلية التي تعد النموذج المقتدى به و من شأن هذه المشاركة أن تعيد للمواطن تمتعه بحقوقه الإيجابية التي تخول له الحق في المشاركة في إدارة الشأن العام و تشكيل الإرادة السياسية و الرأي العام .

وفي الأخير يمكن القول إن الديموقراطية التداولية عند هابرماس قد ظهرت كرد فعل على كل من الأنموذج اللبيرالي وكذا الأنموذج الجمهوري، لتأسس لنموذج جديد قائم على التشاور والنقاش كمبدأ أساسي للديموقراطية، فهي رؤية سياسية قابلة للتحقق في المجتمعات الليبرالية ذات التقاليد الديمقراطية، وإن كانت رؤية لا تخلو من الأبعاد المثالية الطوباوية، مثلها في ذلك مثل أي نظرية فلسفية أخرى في مجال الفلسفة السياسية.

 

المصادر والمراجع:

الدليمي عبد الرزاق. نظريات الإتصال في القرن الحادي والعشرون. الأردن: دار اليازوري العلمية، 2016.

عبد العزيز ركح. مابعد الدولة الأمة عند يورغن هابرماس. الجزائر: منشورات الإختلاف. ط 1 .2011.

قدور نورة " الديموقراطية التداولية (التشاركية) عند يورغن هابرماس " مجلة تاريخ العلوم 05 (2017).

محمد باشا نادية. " الديموقراطية التشاورية عند هابرماس. " مجلة البحث العلمي في الآداب 15 فيفري 2018.

تيطماوسين فتحية، نومري زينب." الديموقراطية في المشروع الفلسفي ليورغن هابرماس " (مذكرة ماستر في الفلسفة السياسية قسم العلوم الاجتماعية جامعة خميس مليانة 2016).

حيوح فوزية. " الديموقراطية التشاورية عند يورغن هابرماس ". موقع مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

بلقاسم مليكش  "الديمقراطية الصورية والديمقراطية التشاورية، التداولية،التواصلية عند يورغن هابرماس " موقع سودارس.

شيرزاد النجار " الاخلاق التواصلية والديمقراطية لدى يورغن هابرماس "  موقع كولان.

 

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia